مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية في شهر نوفمبر المقبل، تزداد قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي أهمية بشكل متعاظم. ويخوض أوباما هذه الانتخابات وفق برنامج يقوم على إنهاء حربي العراق وأفغانستان، وإظهار الصلابة والخشونة في التعامل مع "القاعدة"... بيد أن خصومه الجمهوريين يرون أن رئاسته شهدت هبوط مكانة الولايات المتحدة، علاوة على أنه أظهر ضعفاً في تعامله مع إيران. لكن الحقيقة أكثر تعقيداً مما يبدو أن أياً من الطرفين مستعد للاعتراف به. عندما أدى أوباما اليمين الدستورية عام 2009، كان لديه تصور عن مصير السياسة الأميركية الخارجية يتمثل في تحسين صورة أميركا في الخارج، خصوصاً في العالم الإسلامي، وإنهاء حربي العراق وأفغانستان، ومد اليد لإيران، وإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، وإغراء الصين بالتعاون في القضايا الإقليمية والعالمية، وصنع السلام في الشرق الأوسط. وحسب عباراته فإنه كان يسعى من خلال تطبيق هذه الرؤية للي قوس التاريخ في اتجاه العدالة، ونحو عالم أكثر سلاماً واستقراراً. وفي التطبيق العملي لتلك الرؤية، كان لابد أن ينشأ توتر بين خطاب الرئيس المفرط في تفاؤله بتحقيق تغيير جوهري من جانب، وبين غريزته التي تدفعه لممارسة الحكم بطريقة براجماتية من جانب آخر. وبناءً على ذلك يمكن القول إن تاريخ السياسة الخارجية لإدارة أوباما هو تاريخ محاولات من جانب القائمين عليها للمواءمة بين رؤية الرئيس المتسامية، وبين واقعيته الغريزية، وحذره السياسي. وهذا الجهد الرامي لإحداث توازن أسعد القلة، ووفّر مادة لخصوم أوباما ومنتقديه، فكان طبيعياً أن يتم تفسير المواءمات والحلول الوسط التي كان أوباما يحتاجها لإحداث التوازن المأمول، على أنها نوع من الواقعية السياسية من جانب المؤيدين، وعلى أنها دليل ضعف في الرئيس، من جانب خصومه. لكن لو قيمنا أداءه في مجال السياسة الخارجية بشكل موضوعي، ونظرنا إليه من منظور حماية المصالح الأميركية، فسنقول إن تلك السياسة اشتغلت بشكل جيد للغاية حتى الآن. أما إذا ما نظرنا إليها من منظور البلورة الفعلية للرؤية التي كانت لديه بشأن ما يجب أن يكون، فلا مفر أمامنا من القول إن هذه السياسة لم تنجح في تحقيق تلك الرؤية، وإن كانت لا تزال تحاول ذلك. وعلى أرض الواقع واجهت رؤية أوباما مصاعب عملية نتج بعضها عن الصعود المذهل للصين خلال السنوات الماضية، حيث وجد أوباما أن محاولة إقناع الصين بالتعاون ليست باليسير الذي كان يتخيله. بيد أنه يتعين القول إن استراتيجيته الخاصة بإعادة التوازن في العلاقات مع آسيا هي سياسة معقولة ومنطقية، لكنها تخلق توقعات مرتفعة قد تعجز الولايات المتحدة عن تحقيقها، فيما قد تؤدي تلك السياسة إلى إثارة شكوك الصين، وهو ما قد يؤدي إلى علاقة أميركية صينية أكثر توتراً من ذي قبل. وفي الشرق الأوسط اصطدم سعي الرئيس لصنع السلام بحقيقة أن الطرفين الرئيسيين في الصراع العربي الإسرائيلي لم يكونا عوناً له، ولم يقدما له المساعدة المطلوبة، مما دفعه للقيام بخطوات خاطئة قلصت من سيطرة الولايات المتحدة ونفوذها على الاثنين. ومن هنا فإنه إذا ما حاول أوباما استئناف محاولته لصنع السلام في هذه المنطقة، لو قدر له أن يكون رئيساً لفترة ثانية، فسيكون بحاجة لشريكين إسرائيلي وعربي لديهما الرغبة والإرادة في تحمل مخاطر تحقيق السلام، والإقدام على ما يتطلبه ذلك من تسويات وحلول وسط مؤلمة لكنها جوهرية. وبالنسبة لحركة الاحتجاجات واليقظة العربية، فقد كانت من أكبر المعضلات التي واجهت أوباما حتى الآن، لكنه مع ذلك نجح في التعامل مع الاضطراب والتوتر الذي نشأ عنها، حيث أدرك من البداية أن تلك والانتفاضات لا تتعلق بالولايات المتحدة وبالتالي فلن يكون لدى واشنطن سوى قدرة محدودة على التعامل معها، وهو ما تم حتى الآن. أما من يقولون إن سياسة الولايات المتحدة حيال تلك الانتفاضات لم تكن متسقة مع رؤيتها وما كانت تعلنه من أهداف، فالحقيقة هي أنه لم توجد إلى الآن أي سياسة أكثر اتساقاً من تلك التي طبقتها الولايات المتحدة، كان يمكن أن تحقق نتائج أفضل مما تحقق منذ بدأت تلك الانتفاضات وحتى الآن. وبالنسبة لإنجازات أوباما في مجال الحد من انتشار الأسلحة النووية، يمكن القول إنه رغم أن الرئيس لم يحقق اختراقات حتى الآن في هذا المجال، فإنه نجح بالتأكيد في ترسيخ وتعزيز التزام المجتمع الدولي بعدم الانتشار ونزع السلاح النووي. لكن لو قدر أن تحصل يران على قدرات لتصنيع السلاح النووي، فإن ذلك سيوجه ضربة لنظام عدم الانتشار برمته ويلقي بشكوك قوية حول مدى فعالية تكتيك أوباما في الضغط على تلك الدولة وغيرها للحد من الانتشار النووي. قصارى القول إن سياسة أوباما الخارجية، وإن كانت معقولة وجدية، فإنها لم تكن رائدة ولا مبدعة، علاوة على أن الفجوة بين خطاب الرئيس الطموح وبين إنجازاته الفعلية ولدت قدراً من خيبة الأمل، خصوصاً في أوساط هؤلاء الذين لم يدركوا أن طريقة أوباما في العمل والإنجاز هي طريقة تقوم على التدرج والمراكمة، وليس على التحول الفجائي. ورغم ما تتمتع به الولايات المتحدة من قوة وريادة وتفوق في المجالات العسكرية والاقتصادية والعملية والتقنية، وما تتسم به من نمو سكاني متوازن، ونظام سياسي شفاف، وحكم قانون موثوق به، ومجتمع حي نابض، وقبل ذلك خبرة واسعة في القيادة العالمية... فالملاحظ أن هناك أموراً تمضي في الاتجاه الخطأ، خصوصاً في المجال الاقتصادي الذي مازال مستقبله محاطاً بالخطر. وهناك الاتجاه الخطأ الآخر وهو التداعيات التي قد تنتج عن عدم القدرة على إيقاف هبوط مكانة الولايات، وهي تداعيات ستفوق بكثير أي محصلات قد تتحقق بناء على الشعبية الشخصية للرئيس وقوته الحزبية. مارتن إنديك نائب رئيس ومدير برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز كينيث جيه. ليبرثال زميل رئيسي في مجال السياسة الخارجية وتنمية الاقتصاد العالمي بمعهد بروكنجز مايكل أو هانلون زميل رئيسي ومدير الأبحاث السياسة الخارجية بمعهد بروكنجز ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تربيون ميديا سرفيس"